قطر الصعيد

بسم الله الرحمن الرحيم


من ركب "قطر الصعيد" يعرف تماماً ما هو مقدار الإنسان المصري في عين حكومته، يعرف مقدار الضؤل الذي ترى به عين الحكومة المواطن المصري "الغلبان".. فمهما قال مسئول في خطب أو في لقاءات تليفزيونية عن تطوير أو إصلاح فلن يلقى تصديقاً من الناس أو ينخدع في كلامه أحد. الناس الذين يركبون "قطر الصعيد" معظمهم بسطاء لا يجدون أبسط حقوقهم في الحياة وهي عيشة كريمة لهم ولأسرهم. وهؤلاء الركاب هم خلاصة الشعب المصري الكادح عشان لقمة العيش.
فقد شبهت مصر بقطر الصعيد القوي الذي يمشي مسافاتٍ طويلةٍ دون تعبٍ أو تكاسلٍ رغم إهمال المسئول عنه، وأعتقد أنه تشبيه صحيح من حيث أنه يستوعب كل ركابه دون أن يفريق بينهم، وأنه أصيل عتيق يعاني من الإهمال والمحسوبية والفساد تلك الأمور التي قد تقلل من قيمته وأهميته في نظر البعض ممن يرون الأمور من خارجها، أعتقد أن الشعب المصري بجميع فئاته هم ركاب قطر الصعيد، واللذين ترتبوا في طبقات مجتمعية ممثلة في الدرجات الأولى والتي تضم الأرسطوقراطيون من المجتمع ورجال الأعمال، والثانية  تمثل الطبقة الوسطى والتي هي في طريقها للإنقراض حيث إنقسم ركابها، منهم قليل إنتقلوا إلى الدرجة الأولى، أما معظمهم بقوا في هذه الدرجة التي بالتدريج تحولت إلى شبيه للدرجة الثالثة، أما الدرجة الثالثة فهي الطبقة الفقيرة التي تعدت 40% من إجمالي سكان مصر. وكما أن قطر الصعيد دائماً ما يأتي متأخراً عن معاده، فكذلك مصر متأخرة عن العالم الذي سبقها منذ عصور، ولكن عادة قطر الصعيد يعوض تأخيره في الطريق ويصل نسبياً في معاده فهل ستصل مصر إلى من سبقوها في يوم من الأيام؟! قطر الصعيد دائماً ما يكون مزدحم مليءً بالركاب الذين إنهرسوا بين جدران عربات القطار كما هو الحال في شوارع مصر التي أصبحت أشبه بعلب التونة المفتتة ضيقة ومزدحمة. الكومساري داخل القطار له سلطة كبيرة على الركاب بداعي حفظ الأمن والنظام وتأمين الراحة للركاب، ولكن ذلك الكومساري غالباً ما يستخدم سلطته للتكبر على الركاب (يختلف التعامل على حسب الدرجات، فركاب الدرجة الأولى يلقون التودد من قبل الكومساري أما باقي الدرجات فبياخدوا على دماغ أبوهم) وهذا يقترب في مخيلتي من وضع الحكومة مع الشعب، فوظيفة الحكومة هي خدمة الشعب (كما يقول الشعار القديم للشرطة "الشرطة في خدمة الشعب" والذي تحول إلى "الشعب والشرطة في خدمة الوطن") ولكن الواضح للعيان أن تلك الوظيفة تحولت إلى البلطجة على الشعب وقلة راحته بموجب السلطة المخولة إليهم (أما الطبقة الراقية من أغنياء المجتمع يأخذ أصحابها أكثر من حقهم حتى بدون أن يطالبوا به). وعندما يطالب الركاب البسطاء الكومساري بشيء من حقوقهم (كمعرفة سبب عطل القطار مثلاً)، يلقون منه رد فعلٍ غاضب وكأن ليس من حقهم الكلام أصلاً، وعندما يرد على سؤالهم غالباً ما يعتم الحقيقة ظناً منه أن ذلك سيسكتهم، فيتعلم الركاب ألّا يصدقوه بعدها وهنا تفقد الصلة بين الركاب والكومساري كما فقدت بين الشعب والحكومة، أما عمال النظافة في القطر يذكروني بعساكر الأمن العام، هم في الواجهة فيلامون من الجميع وعلى كل شيء مع أنهم عبد المأمور. الركاب يثقون في السائق مع انهم لم يروه، لا يتجرأ أحد أن يعدل على السائق كما لو أنه هو الوحيد الذي يعرف كيف يقود المسيرة، مع اننا لو إفترضنا أن هذا السائق أضاع الطريق فكل هؤلاء الركاب قد ضاعوا ورائه، ولكن حينها هل يستطيع أن يحاسبه أحد؟! وكيف سيعرف الركاب أنهم قد أضاعوا الطريق إلا بعد فوات الأوان؟! هذا السائق هو من يأمر الكومساري بتهدأة الركاب حتى لا تقوم ثورة. قطر الصعيد عرف عنه أنه دائماً ما تقع حوادثه في منطقة العياط، ومع ذلك لا يتغير شيء، ودائما ما يحاسب شخص يقدم على إنه كبش فداء حتى يحمي من وراءه من كبار الفساد، وحتى وإن تغير الوزير، فلا يتغير شيء، فكم وزيراَ قد أتى ومازالت الحوادث تقع، هذا يمثل طريقة الحكومة في التعامل مع المواقف الحرجة. ركاب قطر الصعيد لا يتكلمون ولا يطالبون بحقوقهم، صابرون لا يحصدون من صبرهم سوى المزيد من الصبر، ولكن هذا الصبر لا يدوم طويلاً، فعندما يفقدوا صبرهم يتحولوا إلى وحوش لا ترى أمامها، ينزلوا في فوضاوية وعشوائية يأكلوا الأخضر واليابس دون تفريق، ولكن تلك العشوائية تفقدهم حقهم في المطالبة بحقوقهم ولا يحصدوا منها إلا الدمار، فهل سينتبه سائق القطر أن الركاب بدأ صبرهم في النفاذ؟! وهل سيظل السائق يعتمد على الكومساري في تهدئة الركاب إلى أن تحدث الثورة؟! يجب على السائق أن يدرك أن الخطر بدأ يهدده وأن عليه تغيير سياسته.
ما يعجبني في هؤلاء الركاب أنهم ذوي صدر رحب، يتعارفون خلال فترة الطريق ولا يلتقوا بعدها، ولكنك إذا رأيتهم يتحادثون تحسبهم أصدقاء منذ زمن، لا ينظر كل منهم إلى تاريخ الآخر أو مساوءه، ولا يهتم أحد بديانة زميله في السفر فكلهم مصريون ذوي "قلب أبيض" متشاركون في مسيرة واحدة وطريق سفر واحد. 
قد أكون ذقت المر بين عربات "قطر الصعيد" ولكن في كل مرة كنت أركبه كنت أتعلم منه الكثير، كنت أستمع إلى حكاوي الناس الذين يحاولون قتل الملل بالحديث بإندهاش وما في كل حكاية من غرائب.. ربنا يتوب علينا منه بس أكيد هايوحشني.


6 التعليقات:

albadri يقول...

إيه ياعم الكلام الكبير ده ماكنتش أحسبك كده , دا إنت عقلك كبير قوي وبتفكر بطريقة متعمقة في بواطن الأمور, ده غير الأسلوب الأدبي الفريد والغزير الملئ بالتشبيهات. بس خد بالك من سواق القطار ده بيفرم ومابيرحمش....محمد البدري

SeMSeMiZaTioN يقول...

دا أحلى كلام إتقال لي ربنا يخليك ليا يا رب ويرحمنا جميعاً من السواق دا

Anonymous يقول...

كويس جدا المقال ده يا إسلام والتشبيهات كانت رائعه جدا

Anonymous يقول...

gameeeeeeeeeeed mooooooooot ya eslam eslob kalamak ra2eeeee3 enta leh msh da5alet sa7afa 3ala el2kal kelmetak teb2a masmo3a lkol elnas

SeMSeMiZaTioN يقول...

ألف شكر يا جماعة والله بس ياريت تكتبوا أسماءكم عشان أعرف مين معايا بالظبط

maro_lobia يقول...

waaaaaaaaaw bgd gamed a5r 7agaaaa ya waad ya smsm ya fanaan ya kbeeeer :D

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More